مساحات شاسعة وبيوت تهدمت إما على رؤوس ساكنيها أو على ذكريات من كانوا فيها... هكذا كانت اللوحة المرسومة لمخيم جباليا، شمال قطاع غزة، حيث لا ترى العين إلا وجوهاً حزينة، ترشق نظراتها حول ركام البيوت وما خفي تحته، وأناس يستجدون بصيص أمل في ايجاد بعض ما فقدوا سواء من أشقائهم أو أصدقائهم أو حتى جيرانهم، يلملمون فتات حاجياتهم وكل ما كان معهم من تحت أنقاض ما كان يعرف بــ "البيت"، على عكس ما حصل لآخرين قدر عليهم ألا تتاح لهم فرصة النجاح فهدمت بيوتهم على رؤوسهم لتساويهم بالتراب.
هكذا تماما كان الحال مع عائلة أبو جلهوم التي أرعبها أزيز الطائرات الاسرائيلية وأرّقت نومهم ضربات الدبابات الحربية لكن ما لم يخطر على بال احدهم قط أن تكون الضحية أصغر أفراد العائلة سنا الطفلة سلسبيل أبو جلهوم (21 شهراً)، والتي لم يتسن لها أن تتم عامها الثاني حيث باغتتها شظية أحد الصواريخ لتحيلها الى "الشهيدة الرضيعة".
عادت عائلتها تحمل قلوبها المكلومة النازفة الى بيت لن يشهد رنين ضحكات سلسبيل البرئية ولن تُرى فيه تلعب مع اخوتها الصغار مجدداً.
بدموعها المنهارة وعباراتها المختنقة كانت تصرخ والدة الشهيدة: "لا أدري ماذا فعلوا بصغيرتي! لم يسنح لي الوقت بانقاذها، لقد كانت تلعب مع إخوتها حين أصابتها الشظية ولم يكن استشهادها يوماً في الحسبان"، وأجهش والد الشهيدة بالبكاء، فكان كلما سئل عنها كانت اجابته مواراة دموعه، والأنين بصمت لجوار أبنائه الصغار، الذين تقرحت عيونهم بكاء على رحيل شقيقتهم وعودتهم لبيتهم دون "سلسبيل".
من جانب آخر، كانت عائلة أبو سيف بانتظار فاجعة مشابهة حين استشهدت ابنتهم صفاء رعد علي أبو سيف (12 عاماً) في فناء منزلها برصاص إسرائيلي، حيث منعت سيارات الإسعاف حينها من نقلها للمستشفى إلا بعد فترة من الزمن وتدخل مؤسسات حقوق الانسان لعمل تنسيق مع الجانب الإسرائيلي يسمح لهم بنقل جثمانها للمستشفى، حتى أن مراسم دفنها قد أقيمت دون أن تتاح لعائلتها فرصة توديعها نظرا لمحاصرتهم في بيتهم شمال القطاع، الان فقط اتيحت لهم فرصة النحيب والحداد على قبرها وان كانت متأخرة.
وفي بيت مجاور لهم كانت تقطن عائلة أبو ركبة التي أجبر أفرادها على الرحيل منه لاستهدافه عدة مرات من قبل المدفعية الإسرائيلية وقربه من خط النار فمنهم من وجد المأوى في بيت أقربائه في غزة، ومنهم من التجأ للجيران، تساهيل أبو ركبة، أمّ لستة أطفال لخصت معاناتها بقولها: "طوال اليوم أبحث عن اطفالي كي أمنعهم من الحراك خارج المنزل لخطورة الوضع، لا أجد معيناً لي فزوجي مسافر في الخارج، ووالدي كهل مريض، لا بد أن ابقى معه حتى في ظل هذا الخطر".
أضافت: "لا أحد منا يستطيع النوم فصوت الرصاص والصواريخ الإسرائيلية يرعب الأطفال ويجعلهم يبكون حتى ساعات متأخرة من الليل، والان بعد أن عاد الجميع لبيوتهم ما زالت الغصة في قلوبنا وما زلنا نستشعر الخوف".
عائلة أبو جلهوم وأبو سيف وأبو ركبة ما هي الا نماذج لمدنيين لا ذنب لهم سوى تواجدهم في بيوتهم بين أفراد أسرهم والذي بات يعد خطراً مميتاً وخطيئة تستوجب القتل فمنهم من رحل ليعود دون أحد فلذات كبده، أو ليجد أنه فقد أكثر مما كان يظن، فآلة الحرب الإسرائيلية مكفوفة البصر والبصيرة لا تميز بين طفل ورضيع أو مقاوم في الميدان ولا بين بيت مهجور وآخر قاطنوه معظمهم أطفال ونساء وشيوخ.