حسن خضر
لماذا يغامر أشخاص بالهرب من السودان إلى إسرائيل؟. الكلام، هنا، عن موجة تضم عشرات، وربما مئات من اللاجئين السودانيين، الذين يعبرون الحدود من بلادهم إلى مصر، ويجتازون سيناء بحثاً عن مأوى في إسرائيل، وغالباً ما يتعرّضون للاعتقال، وأحياناً للقتل، على يد حرّاس الحدود المصريين.
يترك الناس أوطانهم، في الغالب، بحثاً عن الأمان ولقمة العيش، أي هرباً من الاضطهاد والفقر. وفي السودان الكثير من هذا وذاك. ولكن إسرائيل، التي لا تجازف بالسماح لفلسطيني يقيم في رام الله، مثلا، بالمرور من القدس لزيارة أمه المريضة في بيت لحم، ليست بالمكان المناسب لهجرة الفقراء والمضطهدين. هذا، إذا أسقطنا من الحسبان التمركزات الدينية والإثنية التي تجعل من الغريب، حتى وإن كان حراً وغنياً، غريباً إلى الأبد. ناهيك، طبعاً، عن الهوس بالتوازنات الديمغرافية، والذعر من زيادة غير اليهود، حتى وإن كانوا من جنود جيش لبنان الجنوبي، الذين لم يحتملوا وجودهم، رغم ما قدموه من خدمات سابقة، فأقنعوهم بالهجرة إلى الولايات المتحدة..الخ
لذلك، ثمة أكثر من لغز يحتاج إلى تفسير. ولا أزعم معرفة كافية بالأمر. وليس من غير السابق لأوانه القول بأن الذين يعرّضون حياتهم للخطر، بحثاً عن مأوى، هم ضحايا لعبة أكبر منهم أولاً، وهم ليسوا طرفاً فيها ثانياً، ولا يشكل الصراع العربي والفلسطيني ــ الإسرائيلي جزءا من عالمهم الأخلاقي والسياسي، فالمهم في نظرهم المأوى، حتى وإن كان إسرائيل، ثالثاً.
وليس من السابق لأوانه، أيضا، الكلام عن مصلحة إسرائيلية، بالمعنى الإعلامي على الأقل، للظهور بمظهر الدولة التي يفتح ذراعيها للاجئين (غير الفلسطينيين، طبعا). وقد استقبلت في زمن حروب التطهير العرقي في يوغسلافيا السابقة عشرات من اللاجئين، وسط ضجيج من الثناء الذاتي، والنفاق الأخلاقي، يصم الآذان.
وبالقدر نفسه يمكن الكلام عن مصلحة لبعض أمراء الحرب السودانيين في الاقتراب من الإسرائيليين، والاستفادة مما لديهم من نفوذ في الولايات المتحدة، وأجهزة الإعلام الغربية. وإذا كان حكّام دولة بعيدة مثل موريتانيا قد اكتشفوا في وقت ما ضرورة الاستفادة من إسرائيل، وإذا كانت دولة بحجم قطر، إذا حضرت لا تعد، وإذا غابت لا تفتقد، قد اكتشفت ضرورة الاستفادة من الأيادي الإسرائيلية البيضاء، لتأكيد حضورها في العالم، فلماذا لا يكتشف زعماء قبائل وميليشيات شبه عارية، وشبه جائعة، الأمر نفسه؟
من المؤكد أن كلاماً كهذا سيهبط كالعسل على قلوب الحكّام في الخرطوم. فهم في الدعاية الداخلية والخارجية، على حد سواء، يؤكدون دور الأصابع الخارجية، ومن بينها الإسرائيلية، في الحروب الأهلية (وهي بالفعل أكثر من حرب) الدائرة في دارفور ومناطق أخرى من السودان. ويحاولون الإيحاء بأن ما صدر عن جهات قضائية دولية من اتهامات لأعضاء في الحكومة السودانية بممارسة التطهير العرقي، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إنما يُراد منه تشويه سمعة النظام، وزعزعة أركانه.
بيد أنهم لا يستحقون هذا العسل، لأن سلوكهم لا يبعث على الثقة أولا، ولأن الجهات القضائية الدولية أصدق منهم ثانيا، ولأن أحدا لا يستطيع اختراع تهمة من نوع ارتكاب جرائم ضد الإنسانية من لا شيء ثالثا، ولأن الصور والتقارير الصادرة عن منظمات حقوقية كثيرة تؤكد وقوع تلك الجرائم رابعا، ولأن في بحث فقراء ومضطهدين عن المأوى، حتى وإن كان في إسرائيل، دلالة دامغة على سوء إدارتهم للبلاد، وتعديهم على العباد خامسا.
لهذه الأسباب مجتمعة، يشكل السودان حالة نموذجية لعدد آخر من الدول العربية، التي يحوّل حكامها التدخلات الخارجية (الواقعية منها والمتوّهمة) إلى ورقة توت، لإخفاء حقيقة أن تدخلات كهذه ما كان لها أن تحدث لو أداروا البلاد بطريقة أفضل، ووضعوا مصلحة العباد فوق مصلحة النخب والعائلات والطوائف والأجهزة الحاكمة.
جاء حكّام الخرطوم إلى سدة الحكم على ظهور الدبابات قبل عقدين من الزمن، من خلال تحالف يضم أصوليين إسلاميين، وبعض ضبّاط الجيش. وقد حوّلوا البلاد في العقد الأوّل إلى ما يشبه معملا أيديولوجيا وتنظيميا هائل الحجم لبناء وعمارة دولة إسلامية حسب تصوّرات وهندسة حسن الترابي. وهي الفترة التي شهدت تحوّل الخرطوم إلى قبلة للأصوليين العرب (كان بن لادن أحدهم، إلى جانب أعداد كبيرة من الفلسطينيين، الذين تلقوا تدريبات سياسية وفقهية في جامعات ومعاهد ليست أكثر من معامل للاستنساخ التنظيمي والتفريخ الأيديولوجي). ورغم البلاغة الكثيفة، والحماسة الزائدة والمزايدات، إلا أن الترابي كان قادرا على خيانة وبيع مناضلين في صفقات من نوع تسليم كارلوس إلى السلطات الفرنسية، مثلا. المهم أن البشير بعد أن ملأ جيوبه بكثير من بضاعة الترابي الأيديولوجية انقلب عليه، مستفردا بالحكم والبضاعة.
وقد ظهر قبل أيام على رأس مظاهرة حاشدة في الخرطوم ليعلن على الملأ منع المواطنين الدانمركيين من دخول السودان، عقابا لهم على الرسوم الكاريكاتورية. وهكذا أخذ شعبا بجريرة شخص، أو بضعة أشخاص في لعبة هي الأقدم، والأكثر إثارة للشفقة والملل، من بين ألعاب وبهلوانيات الشعبويات العربية. والمقصود، هنا، استنفار عصبيات محلية، وتحيّزات قومية أو دينية، للهرب من والتغطية على أزمات داخلية عميقة.
وعندما يصل الأمر بحاكم إلى حد تقليب الدفاتر القديمة، والعجز حتى عن ابتكار تنويعات جديدة لألعاب قديمة ومستهلكة، لا عجب أن يبحث أشخاص يعانون من الجوع والاضطهاد في بلاده عن الأمان ولقمة العيش حتى في إسرائيل. فمن لا يتعلّم من الواقع يدفع ضريبته. وهذا ما كان.