حسن البطل
لا يعيبني قولي إن لدي ميولاً تفضيلية لبعض الكتاب الصحافيين الإسرائيليين اليهود، ممن أحب أن أقرأ لهم مترجماً إلى العربية، إما بسبب ميولهم السياسية التي تجنح للسلام، ولو من زاوية انتقاداتهم لتقديم أمن اسرائيل، جيشاً ومستوطنين ودولة احتلال، على الحقوق الإنسانية الأساسية والطبيعية للفلسطينيين تحت الاحتلال، وإما احتراماً لمهنيتهم العالية، وأسلوبهم الذي يفصح عن ثقافة واسعة وتجربة.. وحيرة المثقف الحقيقي.
سأختار من الفئة الثانية أبرز اثنين، هما زعيم حركة ميرتس السابق، يوسي سريد، وإيتان هابر رئيس مكتب اسحاق رابين سابقاً. الأول يتناول الشأن السياسي المباشر، ويعطيه خلفية ثقافية تنم عن اطلاع وتجربة؛ والثاني يتناول الشأن الثقافي، ويعطيه خلفية سياسية ممزوجة بالحكمة والخبرة.
إنهما اسرائيليان وطنيان دون شك، ومن موقعين يساري وليبرالي، ويتسم أسلوبهما الرهيف بالسخرية واللوذعية.. وشيء غير قليل من استعلائية المثقف العارف، إزاء ما يراه حماقة وركاكة.. وانتهازية سياسية.
هذان كاتبان لم ينجرفا في حمأة موجة ضربت سواهما من الصحافيين اليساريين، بعد أن نفض السيد باراك يده من يد عرفات، إثر فشل مؤتمر كامب ديفيد، ومن ثم عزفت أقلامهم في جوقة نشيد نشاز أطلقه الجنرال الأكثر توسيماً في جيش اسرائيل، تحت لافتة: (لا يوجد شريك). حقاً أنت لا تصنع شريكك بل تصانعه!
مع هذا، سبق للسيد سريد أن نفض يده من الشعب الفلسطيني قاطبة، لمجرد صدمته من (رقص الفلسطينيين على السطوح) إبان صواريخ صدام حسين الشهيرة، وقال، آنذاك، متوجهاً للفلسطينيين ما معناه (فتشوا عني).. كأنه البدر المفقود في ليلة دامسة. للمثقف نرجسيته بالطبع!
إذا كانت علة بعض اليسار هي شعبويته، مثل ما ابتلي به بعض الفصيل اليساري الفلسطيني، فإن علة البعض الآخر من اليسار هي نخبويته.. فإذا لم تثبت الأحداث صحة مسار بعض اليسار الشعبوي، فإن هذا المسار قد يثبت لبعض اليسار النخبوي أن حساباته صحيحة.. ولكن البوصلة غائبة عن الغوغاء والدهماء في الشعب أو في الطبقة السياسية الحاكمة.
أسوأ اليساريين هم أولئك الذين تذيب الأحداث الطارئة في صراع معقد قشرتهم الليبرالية، فينقلبون على قناعاتهم السابقة، ويغالون في التطرف بقناعاتهم المستجدة.. من النقيض إلى النقيض!
وكل من يقرأ المقالات الصحافية العبرية، يلتقط بسهولة أسماء صحافيين معروفين كانوا دعاة سلام ومساومة وحلول وسط واقعية أو تاريخية أو مستقبلية، وأضحوا دعاة حسم بالقوة وحلول جذرية تعسفية.. وفرز عنصري وتطهير عرقي!
انقلاب المواقف هذا أكثر ظهوراً لدى قادة عسكريين كانوا معتدلين نسبياً، أو مع قشرة يسارية لامعة، فإذا بهم بعد أن فشلوا في امتحانهم العسكري، يغدون حمقى ومتطرفين.. بل وعنصريين سافرين.
على خلاف ما سبق، فإن ساسة أيديولوجيين يمينيين متطرفين، وحتى قادة عسكريين شرسين، يمكن أن تروق حمأتهم قليلاً، ويمرون في (مرحلة تبريد) بعد استلامهم مهامهم القيادية، لأن المشهد من فوق غير المشهد من تحت (تعبير مشتق من عبارة شهيرة لأرئيل شارون، أو لأن (الحمار وحده لا يغير رأيه) حسب تعبير شهير للجنرال دايان الأشهر!
قلة من اليساريين تعلمهم التجربة الواقعية حسنات الليبرالية والتعقل، مثل السيد يوسي بيلين مثلاً، الذي وجد لغة حوار مع أنداد فلسطينيين له، كانوا يساريين راديكاليين فيما مضى، وعلمهم الزمن والتجربة كيف يسيرون على خط المنتصف. إنهم لا يكلون من محاولات الوصول إلى تسوية، ورفع التسوية إلى مشروع سلام. إنهم يحاربون على جبهة جماهير شعبهم المحبطة والمغتاظة من جهة، وعلى جبهة محاوريهم في الطرف الآخر من جهة أخرى، الذين يعانون، بدورهم، من جماهير شعبهم المحبطة والمغتاظة.
أقلية العقلاء في صراع معقد كهذا يخوضون جدولاً ضحلاً من الماء، بينما يسبح الحمقى في لجة بحر متلاطم من الفعل العنيف وردة الفعل الأعنف. دائماً كانت الحلول الوسط في الصراعات المعقدة وذات الجذور العميقة، من صنع أقلية شجاعة في الجانبين، ومعاهدات السلام المتكافئة على المدى البعيد تبدو جائرة في نظر جمهور الطرفين المتصارعين أو غالبية الجمهور.
مفاوضات السلام الحقيقية لم تبد إلا منذ شهور قليلة، وبعد وضع نقاط الارتكاز مثل الدولة الفلسطينية، ونقاش قضايا الوضع النهائي، بينما تظن عامة الناس أنها بدأت في أوسلو، بل إن السلام هبط قبل 51 سنة ولم يجد أرضاً يقف عليها من كثرة الحرائق.
هذا صراع فلسطيني - اسرائيلي محتدم منذ ستين عاماً، وهو يستحق في الأقل مفاوضات تستغرق ست سنوات مثلاً. تدور الحرب على جبهة أو أكثر، وأما مفاوضات السلام فتدور على جميع الجبهات.
وفي الحالتين يسقط قتلى شجعان في الحرب، أو يسقط جبناء في المفاوضات السياسية الأصعب من الحرب.