حسن خضر
أفتى أحد شيوخ الوهابية السعودية، في الآونة الأخيرة، بقتل الـمسلـم إذا لـم يقل بتكفير اليهود والـمسيحيين. قال البرّاك، وهذا اسمه: إن الـمسلـم حتى وإن نطق بالشهادتين يعتبر كافراً إذا لـم يكفّر هؤلاء. وإذا لـم يرجع عن كفره يُقتل، ولا يغسل أو يُكفّن ولا يورّث أو يُصلى عليه.
اليهود والـمسيحيون، حسب التقليد الإسلامي، من أهل الكتاب، أي أن وضعهم أهون من الهندوس والبوذيين وغيرهم. وإذا ما أخذنا فتوى البرّاك على محمل الجد، فمعنى هذا الكلام أن على الـمسلـم تكفير البشرية برمتها.
كان من الـممكن، في زمن مضى، تجاهل هذا الكلام، لكن وجود أشخاص يعتنقون أفكاراً كهذه، ويفجرون أنفسهم في طائرات وقطارات وأسواق وفنادق وساحات عامة لقتل "الكفّار"، بمن فيهم الـمسلـمون، يضع التجاهل في خانة دفن الرأس في الرمال.
يمكن، بطبيعة الحال، الحكم على البرّاك وأفكاره بالانتماء إلى القرون الوسطى. وهذا حكم مريح. ومع ذلك، الحقيقة غير ذلك تماماً. فالتطهير العرقي، والأيديولوجي، والطبقي، والقومي، والـمذهبي، ظاهرة جديدة في التاريخ الإنساني، أي تنتمي إلى الأزمنة الحديثة.
نشأت في العالـم القديم حروب دينية، وصراعات عرقية، لكنها لـم تتمحور حول إبادة الـمختلف، أو إنكار حقه في الوجود. وغالباً ما انتهت، رغم بشاعتها، إلى تسويات غير متوّقعة، وانتصارات رمزية أو قصيرة الأمد. ويجب ألا نخلط، هنا، بين إخضاع الـمختلف، والقضاء عليه. كان الإخضاع سمة سائدة في كل مكان، لكن الإبادة لـم تكن سائدة ولا متداولة.
ولعل في التعددية الدينية والعرقية واللغوية القائمة حالياً في الشرق الأوسط، التي ورثناها من أزمنة بعيدة، ما يكفي للتدليل على أمر كهذا. فلو كان الـمسلـمون، مثلاً، في ذروة صعود الإمبراطورية من فصيلة البرّاك، لاندثرت الـمسيحية واليهودية في مصر وبلاد الشام، ومعها وإلى جانبها طوائف ومذاهب إسلامية كثيرة.
وإذا كان البرّاك جزءاً من الأزمنة الحديثة (وهي لسوء حظه معلـمنة، وهو لسوء حظنا أحد تجلياتها الـمحتملة) فهذا لا يعني أنه يصدر عن علاقة بالعالـم توجد خارج التقليد الإسلامي نفسه. فالصحيح أن علاقته بالعالـم تنتمي إلى التقليد الإسلامي، بيد أن التركيز على موقعها فيه يمكننا من فهم أحد الأجنحة الأكثر دموية وتطرفاً للأصولية بطريقة أفضل.
العلاقة بين الـمركز والهامش في التقليد الديني، كما في كل تقليد آخر (حتى إذا كنّا نتكلّم عن علـم التاريخ أو الفيزياء) ليست ثابتة في جميع الأحوال. وإذا اعتبرنا أن الـمركز يمثل السائد، أو الـمعترف بمركزيته على نطاق واسع، فإن هذا الاعتبار يقودنا إلى التفكير في ما ينشأ حول الـمركز، وبفضله، من سلطات تستمد سلطتها منه، ووظيفتها من السهر على حمايته. كما يقودنا إلى التفكير في الهامش ليس كمكان للإقصاء وحسب، بل كنقطة انطلاق لقوى تتحفز لاحتلال الـمركز، أو تجد صعوبة في القبول به والتأقلـم معه. وربما كل هذه الأشياء مجتمعة.
وهذا، بدوره، يقود إلى تحليل العلاقة بين الـمركز والهامش على خلفية مصالح تعكسها وتفرضها وقائع وتحوّلات اجتماعية وسياسية. بمعنى أن العلاقة بين الـمركز والهامش في التقليد الديني، أو في سواه، مسألة اجتماعية في نهاية الأمر، ولا يمكن فهمها خارج سياق كهذا.
إذا تكلـمنا عن التفسيرات الحنبلية الـمتشددة في التقليد الإسلامي، فإن الكلام يدور، هنا، عن ظواهر عاشت في الهامش على مدار قرون، ولـم تمتلك ما يكفي من وسائل القوّة للسيطرة على الـمركز، كما خضع صعودها وهبوطها في مختلف العهود الإسلامية لتقلبّات الـمصالح والحكّام.
وإذا تكلـمنا عن الوهابية، الوريثة الـمعاصرة لذلك الهامش، فإن الكلام يدور عن ظاهرة صعدت مع صعود الدولة السعودية قبل سبعة عقود، وتمكنت بفضلها من احتلال الـمركز في منطقة بعيدة عن الـمراكز الحضرية والحضارية للعالـمين العربي والإسلامي. وبالتالي بقيت محدودة التأثير وهامشية. لكن الثروة النفطية الهائلة (غير الـمسبوقة في التاريخ، والتي تشبه في بعض جوانبها، والآثار الـمترتبة عليها، الثروة التي استولت عليها أوروبا من الـمستعمرات مع ظهور الكولونيالية، وفتح أقاليم بعيدة) التي هبطت دون جهد بشري يذكر، في شبه الجزيرة العربية، قلبت العلاقة بين الهامش والـمركز، وخلقت طموحات جدية لدى الوهابيين، منذ أواسط السبعينيات على الأقل، بإمكانية اختراق مركز التقليد الإسلامي والسيطرة عليه.
ومن الـمفيد، فعلاً، وصف تلك الطموحات بالجدية، إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة أن السعودية أنفقت منذ أواسط السبعينيات ما بين مليارين وثلاثة مليارات دولار سنوياً على "شؤون الدعوة" التي غالباً ما يصعب التمييز بينها وبين السياسة الخارجية للدولة. (كان إجمالي ما ينفقه السوفييت على شؤون الدعاية لا يتجاوز الـمليار دولار في العام).
ومع ذلك، رغم جدية هذه الطموحات، إلا أن ثمة عقبات حقيقية تعترض طريقها. من بينها (وهذه مفارقة تاريخية) أن الثروة النفطية أسهمت أيضاً في خلق طبقة وسطى سعودية وخليجية تسعى لإنشاء مجتمعات ودول بالـمعنى الحديث للكلـمة. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، أن احتلال الوهابية لـمركز التقليد الإسلامي في تلك الـمجتمعات، لـم يعد مضموناً أولاً، ويتناقض مع فئات اجتماعية ومصالح جديدة ثانياً. وفي هذا السياق، التطرف الوهابي في الداخل والخارج جزء من ضرورات الدفاع عن امتياز السيطرة على الـمركز في بلد الـمنشأ.
ثمة عقبة إضافية تتمثل في حقيقة أن العلاقة بين الهامش والـمركز في العالـمين العربي والإسلامي لـم تكن مشكلة كونية كما هي الآن، مما يعني خلق وبلورة ديناميات اجتماعية وسياسية وثقافية وأيديولوجية بعيدة الـمدى لـمجابهة الوهابية (أو الفكر التكفيري، أو التطرّف، أو سمه ما شئت) وحماية التقليد الإسلامي نفسه من خطر السقوط في قبضة أيديولوجيا أصبحت العمليات الانتحارية في الشرق والغرب على حد سواء، من علاماتها الـمسجلة، ناهيك عن فقرها وكراهيتها لبني الإنسان. وهذا يعني، ضمن أمور أخرى، أن الإسلام كما ذكر أركون ذات يوم ربما يمر الآن بأكبر مرحلة للعلـمنة في تاريخه. مفارقة من عيار ثقيل وخطير. فكل ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.